ارشيف الذاكرة .. مخالفات وعراك
يمنات
أحمد سيف حاشد
كنت في الكلية العسكرية طالب منضبط و ملتزم حد القلق .. لا أستسهل المخالفات و لا أرغب في إتيانها .. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق .. كانت مخالفاتي بسيطة و طفيفة و قليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، و هي تتراوح بين خروج رأس “الجزمة” عن خط البلاط .. تراب خفيف على الدولاب .. خطاء طفيف في الحركة النظامية .. تأخري عن الطابور، بإجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين .. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، و لا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..
مخالفة أخيرة لا أنساها، و هي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، و الذي وبخني عليها و هو ينفعل، بكلام لا أفهمه مدرّس مادة الاستطلاع، الخبير الروسي قصير القامة، و لكن كانت إشارة يده و رأسه و حركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة و كلام، و قد أثارت معها عاصفة من الضحك..
أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها .. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان “حبيش” و هو طالب كثير المخالفة و الفوضى و يلازمه العقاب كتوأمه، و لم أعلم يوما إنه فارقه، أساء في فلتة لسان تضمنت منّا، إلى زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي “عمر”، خريج جامعي، و هو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..
كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، و أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، و المحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر .. كانوا غاية في النبل و الامتلاء الثقافي و السلوك الراقي و القدوة الحسنة .. كان “عمر” أحدهم، بل و أكثرهم امتلاء، و محل اقتداء..
ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، و الامتلاء الثقافي، و السلوك القويم، و التعامل الراقي، و التواضع الجم، و لكن الشيوعي “عمر” كان يجمع كل ذلك .. كان “عمر” ينتزع دوما دهشتي و اعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي في الاقتداء به..
لو كان الشيوعيون مثل “عمرنا” لاستحقوا الاقتداء بهم .. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي “فهد” الذي أطلق مأثرة، و هو يستعد لتنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا: “الشيوعيون أقوى من الموت و أعلى من أعواد المشانق” .. و في “عمر” كنت أرى قبس من نبوة، و زهد صوفي، و قائد يأسر الألباب..
ما أبداه زميلي الفوضوي نحو “عمر” من “المن” استفزني، و أثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة و جنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، و الذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث .. اشتجرت معه بعنف، و تدخل الزملاء لفض العراك، و تحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض العراك .. و بعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، و تم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..
و في مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف .. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى ساحة الطابور .. كان لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب .. كنت دهشانا و سريع العدو و أزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..
و في مزحة ثقيلة، و حالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، و جرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، و ما ان سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، و تتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، و لكن لم يسعفنِ الوقت، و كان الارباك سيد الموقف..
يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، و الثاني بسبب ما طال سريري و فراشي و ما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، و بسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، و لكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه .. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ و قد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة و عقاب .. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..
***
يتبع
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.